سورة آل عمران - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ} أي: علم ووجد: قاله الزجاج.
وقال أبو عبيدة: معنى أحسّ: عرف. وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: العلم بالشيء. قال الله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]. والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القويّ الجاري مجرى المشاهدة. وبالكفر إصرارهم عليه، وقيل: سمع منهم كلمة الكفر.
وقال الفراء: أرادوا قتله. وعلى هذا، فمعنى الآية: فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر قال: من أنصاري إلى الله. الأنصار جمع نصير. وقوله: {إِلَى الله} متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: متوجهاً إلى الله، أو ملتجئاً إليه، أو ذاهباً إليه، وقيل: إلى بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] وقيل: المعنى: من أنصاري في السبيل إلى الله، وقيل: المعنى: من يضم نصرته إلى نصرة الله. والحواريون: جمع حواري، وحواريّ الرجل: صفوته، وخلاصته، وهو مأخوذ من الحور، وهو البياض عند أهل اللغة، حوّرت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام: ما حوّر: أي بيض، والحواري أيضاً الناصر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبيّ حواريّ، وحواريي الزبير» وهو في البخاري، وغيره.
وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم. وقيل: لخلوص نياتهم. وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثني عشر رجلاً، ومعنى أنصار الله: أنصار دينه ورسله. وقوله: {آمنا بالله} استئناف جار مجرى العلة لما قبله، فإن الإيمان يبعث على النصرة. قوله: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا.
ومعنى: {بِمَا أَنزَلْتُ} ما أنزله الله سبحانه في كتبه. والرسول عيسى، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: اتبعناه في كل ما يأتي به، فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية، ولرسولك بالرسالة. أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم. وقيل: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَمَكَرُواْ} أي: الذي أحسّ عيسى منهم الكفر، وهم: كفار بني إسرائيل. ومكر الله: استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون. قاله الفراء، وغيره.
وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وأصل المكر في اللغة: الاغتيال، والخدع: حكاه ابن فارس، وعلى هذا، فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة. وقيل: مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفع عيسى إليه {والله خَيْرُ الماكرين} أي: أقواهم مكراً، وأنفذهم كيداً، وأقواهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب.
قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى} العامل في إذ: مكروا، أو قوله: {خَيْرُ الماكرين} أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك.
وقال الفراء: إن في الكلام تقديماً، وتأخيراً تقديره إني رافعك، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.
وقال أبو زيد: متوفيك قابضك.
وقال في الكشاف: مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله، وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف، وقيل: المراد بالوفاة هنا النوم ومثله: {وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] أي: ينيمكم، وبه قال كثيرون. قوله: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي: من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم.
قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} أي: الذين اتبعوا ما جئت به، وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً، ومنهم المسلمون، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلوّ، فلم يفرّطوا في وصفه، كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى.
وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم. وقيل: المراد: بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة؛ وقيل: هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل: هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار، أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين، كما تفيده الآيات الكثيرة، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل، قاهرة لها مستعلية عليها.
وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته: وبل الغمامة في تفسير: {وَجَاعِل ُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} فمن رام استيفاء ما في المقام، فليرجع إلى ذلك. والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف، أو بالحجة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره، وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة. قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم، وتقديم الظرف للقصر {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذ: {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين.
قوله: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} إلى قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} تفسير للحكم.
قوله: {فِى الدنيا والاخرة} متعلق بقوله: فأعذبهم، أما تعذيبهم في الدنيا، فبالقتل والسبي، والجزية، والصغار، وأما في الآخرة، فبعذاب النار. قوله: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: يعطيهم إياها كاملة موفرة، قريء بالتحتية وبالنون. وقوله: {لاَ يُحِبُّ الظالمين} كناية عن بغضهم، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها. قوله: {ذلك} إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى، وغيره وهو مبتدأ خبره ما بعده، و{مِنَ الأيات} حال، أو خبر بعد خبر. والحكيم المشتمل على الحكم، أو المحكم الذي لا خلل فيه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إنما سمُّوا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين.
وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك قال: الحواريون قصارون مرّ بهم عيسى فآمنوا به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: هم أصفياء الأنبياء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الضحاك مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: الحواري الوزير.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة قال: الحواري الناصر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} قال: مع محمد، وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح عنه قال: {مَعَ الشاهدين} مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي، فيقتل، وله الجنة، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يقول: مميتك.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن قال: متوفيك من الأرض.
وأخرج الآخران عنه قال: وفاة المنام.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال: هذا من المقدّم، والمؤخر أي: رافعك إليّ، ومتوفيك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مطر الوراق قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن وهب قال: توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه، وأخرج ابن عساكر، عنه قال: أماته ثلاثة أيام ثم بعثه، ورفعه.
وأخرج الحاكم، عنه قال: توفى الله عيسى سبع ساعات.
وأخرج ابن سعد، وأحمد في الزهد، والحاكم، عن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
وأخرج ابن عساكر، عن وهب مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله تعالى: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} قال: طهره من اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن كفار قومه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} قال: هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته، وملته، وسنته.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله» قال النعمان: من قال إني أقول على رسول الله ما لم يقل، فإن تصديق ذلك في كتاب الله، قال الله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} الآية.
وأخرج ابن عساكر، عن معاوية مرفوعاً نحوه، ثم قرأ معاوية الآية.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، وليس بلد فيه أحد من النصارى، إلا وهم فوق اليهود في شرق، ولا غرب، هم البلدان كلها مستذلون.


تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً من غير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة، وهو كونه لا أمّ له: كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه، وأعظم عجباً، وأغرب أسلوباً. وقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} جملة مفسرة لما أبهم في المثل، أي: أن آدم لم يكن له أب، ولا أم، بل خلقه الله من تراب. وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأنّ آدم خلق من غير أب، وأمّ. قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: كن بشراً، فكان بشراً. وقوله: {فَيَكُونُ} حكاية حال ماضية، وقد تقدّم تفسير هذا.
وقوله: {الحق مِن رَّبّكَ} قال الفراء: هو مرفوع بإضمار هو.
وقال أبو عبيدة: هو استئناف كلام، وخبره قوله: {مِن رَبّكَ} وقيل: هو فاعل فعل محذوف، أي: جاءك الحق من ربك. قوله: {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أي: لا يكن أحد منكم ممترياً، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت؛ لأنه لا يكون منه شك في ذلك.
قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} هذا وإن كان عاماً، فالمراد به الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران، كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال هو على عمومه، وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير {فيه} لعيسى؛ والمراد بمجيء العلم هنا: مجيء سببه، وهو: الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة، والمجادلة. وقوله: {تَعَالَوْاْ} أي: هلموا، وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضراً، كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر. قوله: {نَدْعُ أَبْنَاءنَا} الخ اكتفى بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون. مواقف الخصام دونهن، ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه، ونساءه، ونفسه إلى المباهلة. وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وسلم أراد بالأبناء الحسنين، كما سيأتي. قوله: {نَبْتَهِلْ} أصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن، وغيره، يقال بهله الله، أي: لعنه، والبهل: اللعن. قال أبو عبيد، والكسائي: نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد:
فِي كُهُول سَادَةٍ مِنْ قَوْمِه *** نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيهم فابْتَهَلْ
أي: فاجتهد في هلاكهم. قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} عطف على نبتهل مبين لمعناه {إِنَّ هَذَا} أي: الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى {لَهُوَ القصص الحق} القصص التتابع، يقال: فلان يقص أثر فلان، أي: يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع، بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره، وزيادة {من} في قوله: {مِنْ إِلَهٍ} لتأكيد العموم، وهو ردّ على من قال بالتثليث من النصارى.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث حذيفة: أن العاقب، والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبياً، فلاعننا لا نفلح أبداً نحن، ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً، فقال: «قم يا أبا عبيدة» فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، وأنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل، فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} إلى آخر الآية.
وقد رويت هذه القصة على وجوه، عن جماعة من التابعين.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب، والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد، فقال: «كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام» قالا فهات. قال: «حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير». قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيد عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه، وأقرّا له، فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا، لأمطر الوادي عليهما ناراً. قال جابر: فيهم نزلت: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وأبناءكم} الآية. قال جابر: {أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ، وأبناءنا الحسن، والحسين، ونساءنا فاطمة. ورواه أيضاً الحاكم، من وجه آخر عن جابر وصححه، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن نلاعنك؟ وأخرج مسلم، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، عن سعد بن أبي وقاص: قال لما نزلت هذه الآية: {قُلْ تَعَالَوْاْ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».
وأخرج ابن عساكر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا} الآية، قال: فجاء بأبي بكر، وولده، وبعمر، وولده، وبعثمان، وولده، وبعليّ، وولده.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج، عن ابن عباس: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نجتهد.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الإخلاص» يشير بأصبعه التي تلي الإبهام، «وهذا الدعاء»، فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال، فرفع يديه مدّاً.


قيل: الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية. وقيل: ليهود المدينة، وقيل: لليهود والنصارى جميعاً، وهو: ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض؛ لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسواء: العدل. قال الفراء: يقال في المعنى العدل: سوى، وسواء، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضممت، أو كسرت قصرت. قال زهير:
أرونيّ خُطَّةً لا ضَيْم فيها *** يُسَوِّيَّ بيننا فيها السَّوَاءُ
وفي قراءة ابن مسعود: {إلى كلمة عدل بيننا وبينكم} فالمعنى: أقبلوا إلى ما دعيتم إليه، وهي: الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهو: في موضع خفض على البدل من كلمة، أو رفع على إضمار مبتدأ، أي: هي ألا نعبد، ويجوز أن تكون {أن} مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها، وفي قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح، وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر، وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله، فحلل ما حللوه له، وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك، فقد اتخذ من قلده ربا، ومنه {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] وقد جوّز الكسائي، والفراء الجزم في {وَلاَ نُشْرِكَ} {ولا يتخذ} على التوهم. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عما دعوا إليه: {فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لأحكامه مرتضون به معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، عن ابن عباس قال: حدّثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين، و{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى قوله: {بأنا مسلمون}».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية، فأبوا عليه، فجاهدهم حتى أقرّوا بالجزية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة: {إلى كَلِمَةٍ سَوَاء} قال: عدل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} قال لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله؛ ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم، وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلوا لهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} قال: سجود بعضهم لبعض.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8